بقلم/الشيماء صلاح الدين
لم يتبق على منتصف الليل سوى نصف الساعة..
وليس من المتوقع أن يأتي أي شخص لشراء الأدوية..
ولذلك بدأت في مراجعة كل دفاتر الصيدلية استعدادا للإغلاق..
وضعت نظارتها الطبية وشرعت في العمل.. أدارت المذياع على محطة إذاعية تذيع بعضًا من أغنياتها المفضلة..
كانت هناك أغنية غربية ذات إيقاع راقص جعلتها تقبل على مراجعة الدفاتر بنشاط واضح..
سمعت وقع خطوات..
لم تلتفت لتلك الخطوات في بادئ الأمر..
إذ أكدت لنفسها أنه ربما أحد المارة قاده الطريق إلى هنا.. أو أحد الأشخاص ذاهب لقضاء حاجة أو عائد من عمل..
ولكن الفضول جعلها ترفع عينيها لترى صاحب الخطوات..
رأت شابا دقيق الهندام..
رشيق الخطوة..
تعلو غرته خصلات بيضاء متفرقة.. أضفت وقارًا على هيئته..
اقترب منها أكثر.. فبدت ملامحه الحادة أكثر وضوحًا..
أطالت النظر للقادم الذي ما إن وقعت عيناه عليها حتى توقّف عن الحركة.. وبدت تلك اللحظة كدهر لكليهما..
قرّر أن يتكلم هو أولا، فحيّاها..
كادت من فرط الدهشة ألا ترد التحية..
ولكن ابتسامته أثابتها لرشدها سريعًا..
سألها عن حالها.. فحمدت الله وشكرت نعمه.. حاولت أن تهرب من نظرات عينيه المثبتة على وجهها بأن تسأله عن سبب قدومه للصيدلية في هذا الوقت المتأخر.. وتصنعت القلق..
فأجاب بهدوء وقد اكتشف حيلتها بأن خالته مريضة وتقيم مع أمه لأنها وحيدة..
أخذت الوصفة الطبية من يده..
قرأتها بسرعة.. ووضعتها جانبا..
كان يراقبها وهي تتحرك يمينًا ويسارًا.. باحثة عن طلبه بين الرفوف..
يتساءل في نفسه هل تزيد السنوات من جمالها؟
أم تراه الحب قد أغشى عينيه.. وأخفى أثر السنوات عليها؟
إنها حقا ما زالت كما هي..
نفس ذات الرقة والعذوبة..
ونفس ذات الجمال..
وقفت تجمع زجاجات الدواء أمامه.. فرأى قلادة معلقة على صدرها..
إنها نفس القلادة التي أهداها إياها ذات يوم..
لا تزال ترتديها بعد كل تلك السنوات..
لم يتمالك نفسه من فرط السعادة.. وأمسك بكلتا يديها بين يديه.. وهي تنظر إليه في دهشة بالغة..
سألها وهو يغالب دموعه:
-
لم هربت وتركتني إذن؟
أما زلت تحبينني؟
لماذا ابتعدتِ وتركتني أبحث عنك؟
حاولت أن تسحب يديها من يديه وهي تقول:
-
ومن قال إني ما زلت أحبّك؟
قال وهو يطاردها بنظراته:
-
تلك القلادة التي أهديتك إياها.. أنت ترتدينها رغم كل تلك السنوات.
هي ذكرى لأيام كانت بيننا..
أيام لا تريدين أن تنسيها..
وضعت يدها تتحسس موضع القلادة من صدرها.
شعرت بنبضات قلبها تتسابق.. وكأنها تريد أن تؤكد له ظنه.. وتقول له.. نعم ما زلت أحبك..
استدارت لتخفي وجهها عنه.. فقد كادت نظرات عينيها تفضحان ما تخفيه..
مد يده وأمسك ذراعها.. وطالبها بالرد على تساؤلاته الكثيرة..
تعللت بتأخر الوقت.. فأصر على أن يتقابلا في الغد.. حتى يعرف ما تخفيه عنه..
حاولت الرفض.. ولكنه لم يقبل رفضها.. وأصر أن يبقى معها حتى وقت الإغلاق.. فلم تجد بُدًا من أن تؤجل مراجعة الدفاتر للغد..
بعد أن أغلقا الصيدلية معًا، أصر أن يوصلها رافضا أي عذر قد تبديه..
طوال الطريق أخذا يتذكران أقاصيص الماضي.. ويسردان ذكرياتهما بكل التفاصيل.. لم ينس أحدهما شيئا مما مضى، بدا وكأنهما ما زالا يعيشان ذلك الماضي حتى تلك اللحظة التي جمعتهما مجددًا.. دون أن يرتب أي منهما لها..
تبادلا أرقام الهواتف واتفقا على محادثة هاتفية ما إن يصل كل منهما منزله..
تحدّثا طويلا وتعاتبا كثيرًا.. وتصالحا أخيرًا، ولم يبق سوى أن يتقابلا ثانية، ليعلنا للعالم أن حبهما قد عاد للحياة مجددًا..
طلب منها أن تنتظره وحدد لها مكانًا وزمانًا.. ولما كان الغد.. تقابلا في الوقت والميعاد..
لم يتأخر أحدهما ثانية واحدة.. لم يكن ليخفى عن أي عين تراهما، أنهما عاشقان محلقان في سماء الحب وحدهما..
بعد تلاقي العيون وتلامس الأيدي، اعتقدت أنه سوف يأخذها لمكان لقائهما السابق.. لكنه لم يفعل.. بل اقتادها لطريق آخر لا تعرفه..
أوقفها أمام واجهة أحد العقارات.. ونظر لها وابتسم ابتسامة لم تفهم معناها..
اقتادها إلى داخل ذلك العقار..
لم يعطها أي فرصة للسؤال.. أو النقاش..
في المصعد سألته..
-
إلى أين نحن ذاهبان؟
لم يلحظ في عينيها خوفًا ولكنه رأى شوقًا ولهفة يسيطران عليها.. فحاول أن يزيد شوقها ولهفتها.. فنظر إليها ويده تضغط أحد الأزرار وقال:
-
سوف ترين.
توقف المصعد.. وخرجا منه ليواجها بابا آخر لشقة.. حاول أن يجرّها خلفه، ولكنها توقفت ووضعت يديها في وسطها.. وعقدت حاجبيها ومالت برأسها للجانب..
نظر إليها فوجدها وقد بدت كطفلة غاضبة.. فضحك منها وأخبرها ألا تخشى شيئًا..
فتح الباب.. فإذا بها تنظر لأثاث راق..
وإضاءة خلابة..
ووجدت نفسها تدخل لتلك الشقة مأخوذة بما ترى..
أمسك يدها وهو يقول:
-
هذا بيتنا.. كما تمنيته.. أليس كذلك؟
انظري لألوان الجدران والستائر..
انظري للسجاد وأواني الزهور..
تحرك ناحية الشرفة وهو يجرّها خلفه.
ثم قال لها وهو يشير للفضاء أمامه:
-
ألم تتمني أن تشاهدي هذا المنظر من شرفتنا ذات يوم؟
التفت إليها فوجدها تضع يدها على فمها.. لا تقوى على الكلام.. فأكمل قائلا:
-
حتى قفص العصافير وأصيص الياسمين لم أنسهما يا حبيبتي..
أعلم أن سر هروبك كان موقف عائلتي الرافض لحبنا.. لكن سنوات الفراق لقنتني درسًا.. وقلبي لم يتوقف عن ترديد اسمك.. وعقلي احتفظ بذكراكِ ونسي ما دونها..
صدقيني حبيبتي لم أعد مثلما كنت..
لن أقوى على فراقك ثانية..
جثا على ركبتيه أمامها ثم قال:
-
أتقبلين الزواج بي كي تصلي ماضيّ بحاضري..